من بودا إلى خروج الأمير هاري من العائلة الملكيّة… ما هي شمّاعة فشلك؟

منظور “بودا” (Buddha)، أو “بوذا” واسمه الكامل “غوتاما بودا”، للحياة كان ملكي بحت، وحياته خارج القصر لم يكن لها وجود على أرض الواقع، كيف لا وهو تربّى وترعرع في قصر والده الثري، القصر الذي ولد فيه وأنجب فيه وحظي بولده الأول فيه أيضًا. إلا أن مسيرة حياته وفلسفته التي تُركّز على التقشّف والتأمّل والرضا بالقضاء والقدر لا يُمكن تصديقها لو كان مصدرها “بودا” القصر فقط.
في يوم من الأيام خرج “بودا” من عُزلة القصر ليُشاهد أشياءً لم يسبق أن شاهدها في السابق، أشخاص يُعانون من أمراض، وجثث منُتشرة في الشوارع، وغيرها من الأمور المُحرّمة في القصر الملكي التي بدورها جاءت بمثابة صدمة غيّرت حياته للأبد، فهو قرّر الخروج من منطقة راحته للبحث عن ذاته بعيدًا عن الثراء، وتخلّى عن رفاهية حياة القصر وافترش الأرض للعثور على غايته في هذه الحياة ولفهم معاني أعمق بكثير من الأمور الماديّة.
اليوم، التاسع من “يناير/كانون الثاني” 2020، تفاجئ العالم بقرار الأمير هاري (Prince Harry) الذي عبّر عن رغبته هو وزوجته الخروج من العائلة الملكيّة للبحث عن الاستقلال المادّي، وهذا بمثابة خروج بشكل أو بآخر عن الملّة لو أردنا صياغة الأمر دون الكثير من الحياديّة والتجميل.
قرار مثل هذا لا يُمكن اتخاذه بسهولة، خصوصًا مع الكم الهائل للبروتوكولات التي تُحيط العائلة الملكيّة في المملكة المُتحدة، والتي تُعتبر أشبه بسجن تناولته الكثير من المُسلسلات والكُتب الصادرة مؤخّرًا عن حياة الملكة هُناك. وبالتالي فإن الأمير هاري بنظر البعض هو شخص عاقّ بجدّته التي تُحاول الحفاظ على مجد العائلة.
لم يكترث الأمير هاري كثيرًا لتبعيات قراره الأخير، وهو الذي سبق وأن اتّخذ الكثير من القرارات التي وصفت بأنها جريئة وتُخالف العرف الملكي، حاله حال “بودا” الذي قرّر هو الآخر ترك الإرث المادّي والمعنوي الذي سيتركه والده. لا أقصد هنا المُقارنة بينهما، فنحن بحاجة عقد أو اثنين من الزمن لإعادة النظر في حياة الأمير لنقول أنها فعلًا حملت رسالة أم لا، لكن الأمر بتجريد مُتشابه لأبعد الحدود.
شخص لديه منطقة الراحة الخاصّة به لا يشعر بالسعادة فيها فقرّر الخروج منها، دون أية أعذار أو اعتبارات أو بروتوكولات أو مُجاملات اجتماعية، وهو ما دفعني للتأمّل في حياتنا اليوم، فبالنظر إلى إنجازات “غاندي” أو “بودا” يُمكن العثور على حجّة جاهزة تُفيد بأن الحياة آنذاك كانت بسيطة وليست بتعقيد حياة اليوم. لكن الأمير هاري يعيش في حياتنا المُعاصرة، مع نفس الضغوط والوتيرة السريعة، وإذا كان قادرًا على الخروج من حكم العائلة الملكيّة فأنت أيضًا قادر على ذلك، والموضوع مُجرّد نوايا لا أكثر.
إذا وصلت إلى هُنا فهذا يعني أن هناك أمور لا تُشعرك بالسعادة في حياتك. ولأنك ستعيش مرّة واحدة، فكّر جيّدًا في قيمة تلك الأمور وفي إمكانية التخلّي عنها، لست مُضطرًا للاستدانة من البنك لركوب أحدث سيّارة فقط للتفوّق على أقربائك وإرضاء “بيت حماك”. ولست مُضطرًا للعمل في وظيفة لا تُقدّم لك أي شيء فقط لأن من حوليك سينعتوك بأنك عاطل عن العمل، ولو لفترة من الزمن.
أكره كلام التحفيز والتنميّة البشريّة، إلا أن الحلقة الاجتماعية والعادات والتقاليد التي لا معنى لها في يومنا الحالي بحاجة لإعادة تقييم، وإلا فإن أي حجّة ستُقدّمها لذاتك هي مُجرّد شمّاعة لا معنى لها وكذبة على نفسك قبل أن تكون على الناس.