عام

هل شكّل وصول هزّاع المنصوري لمحطّة الفضاء الدولية فضيحة للحكومة الإماراتية؟

كشفت الشبكات الاجتماعية زيف الشعارات الرنّانة التي تتردّد على مسامعنا يوميًا، فهاهي ألمانيا تفسخ عقد اللاعب التركي ”جينك شاهين“ (Cenk Şahin) فقط لأنه نشر صورة يؤيّد فيها جيش بلاده(1). وفي وقت من المُفترض فيه أن يدعم العرب بعضهم البعض، انقسم الفضاء الإلكتروني بسبب هزّاع المنصوري، أول رائد فضاء عربي يصعد إلى محطّة الفضاء الدوليّة، فالبعض يرى أن هذا الإنجاز حصل بسبب الأموال الإماراتية فقط مُقلّلين بذلك من قيمته(2)، فهل اشترت الإمارات فعلًا مقعد -وأهليّة- هزّاع للفضاء؟

هزّاع، أول رائد فضاء عربي

لغاية سبتمبر/أيلول 2019، تعاقبت على محطّة الفضاء الدولية (International Space Station)، التي تُعرف اختصارًا بـ (ISS)، ستّين بعثة حملت على متنها روّاد فضاء سكنوا في المحطّة لفترات مُختلفة من الزمن(3). لذا، فإن البعثة رقم 61 لم تكن مُختلفة كثيرًا عن سابقاتها باستثناء أنها حملت على متنها أول رائد فضاء عربي يدخل إلى محطّة الفضاء الدوليّة، الأمر الذي احتفت فيه مجموعة كبيرة من وكالات الفضاء العالميّة.

في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول، وصل هزّاع المنصوري إلى المحطّة في مهمّة استمرّت لثمانية أيام فقط، قبل أن يعود بنجاح إلى الأرض مع بداية أكتوبر/تشرين الأول. احتفى البعض بهذا الإنجاز، بينما قلّل البعض الآخر من قيمته بسبب المدّة التي قضاها هزّاع في المحطّة أولًا، وبسبب المُسمّى الوظيفي له بحسب وكالة الفضاء الأمريكية ”ناسا“ (NASA) التي منحته لقب المُشارك (Participant) فقط(4).

صحيفة ”نيويورك تايمز“ (NYTimes) أشعلت فتيل الفتنة، فهي أول من أعاد سرد الحقائق السابقة مؤكّدين أن الإمارات دفعت مبلغًا ضخمًا، يصل إلى 75 مليون دولار أمريكي، لوكالة الفضاء الروسيّة لإرسال هزّاع(5)، إلا أنها تناست أن هناك حقائق مُختلفة أوصلت الطيّار الإماراتي للفضاء تبدأ بمركز محمد بن راشد للفضاء الذي باشر مهامه في 2017 برؤية يطمح من خلالها لإرسال مسبار ”الأمل“ (Hope) مع حلول 2021، والذي تتعاون الإمارات فيه مع ثلاث جامعات أمريكية هي جامعة ”كولورادو“ (Colorado)، و“آريزونا“ (Arizone)، بالإضافة إلى ”كاليفورنيا“ (California)(6).

وبالعودة إلى رحلة هزّاع، فإن الإمارات لم تكن وحيدة كذلك، فشركة ”نانوراكس“ (NanoRacks)، المُتخصّصة في مجال صناعة معدّات الفضاء، تعاونت مع مركز محمد بن راشد لإجراء مجموعة من الاختبارات في محطّة الفضاء الدوليّة، اختبارات أجراها هزّاع خلال زيارته على شاكلة تأثير انعدام الجاذبية على الرمال، والاسمنت، بالإضافة إلى المعادن والزيوت المُختلفة، وهذا يعني أن هزّاع المنصوري لم يذهب في نُزهة مدفوعة إلى محطّة الفضاء الدوليّة(6).

وبحسب الدراسات، فإن الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت خلال العام الماضي 41 مليار دولار أمريكي على الأبحاث والتجارب، بالإضافة إلى المعدّات والمركبات الخاصّة بالفضاء، في وقت دفعت فيه الهند 1.5 مليار دولار أمريكي. الإمارات أنفقت ما يصل إلى 383 مليون دولار فقط، لكن هذا الرقم يتفوّق على ما أنفقته كندا أو تركيا مثلًا، لذا فإن الأمر ليس مُجرّد قرار وليد اللحظة(7).

هل تصنع النقود رائدًا للفضاء؟

المبالغ التي تُنفقها الحكومة الأمريكية والروسية على الفضاء تتضمّن تكلفة إطلاق المركبة وتطويرها، وهذا يعني أن أعلى المعايير يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار قبل، وأثناء، وبعد الإطلاق سواءً من ناحية التقنية أو من ناحية الأشخاص المسؤولين عن تلك البعثات. ومن أجل ذلك، طوّرت وكالة ”ناسا“ برنامجها الخاص الذي ساعدها على مدار العقود الأخيرة في اختيار المُرشّحين الأنسب للصعود إلى الفضاء(8).

قبل أن تبدأ مرحلة تأهيل رائد الفضاء التي قد تستمر لعامين، تفتح وكالات الفضاء الباب أمام الراغبين وكأنها فرصة عمل من أجل التقدّم لها. الشروط الأوليّة واضحة، المُتقدّم يجب أن يمتلك شهادة جامعية في اختصاصات كالهندسة أو الطب أو علوم الحاسوب، بالإضافة إلى الفيزياء أو العلوم المُختلفة فضلًا عن امتلاك خبرة لا تقل عن ثلاث سنوات في مجال دراسته. معايير أُخرى قد يتم وضعها وهي تختلف من وكالة لأُخرى، لكن رشاقة الجسم والصحّة الجسديّة والنفسية من الأمور الأساسية التي يتم التركيز عليها(9).

 وبعد التقدّم، وفي حالة الاختيار الأولى، يخضغ المُرشّحين لاختبارات مُختلفة لقياس مستوى التركيز وإمكانية تعدّد المهام بالإضافة إلى قوّة التحمّل وطريقة التصرّف في الظروف الصعبة، دون نسيان اختبارات المعلومات العامّة في مجالات مُختلفة كالرياضات والفيزياء.

اجتياز تلك الاختبارات لا يعني أبدًا أن الشخص سيُصبح رائد فضاء بالضرورة، فالمُتقدّم هُنا يحتاج لدراسة منهج خاص أعدّته الوكالة يشرح مثلًا آلية عمل محطّة الفضاء الدولية، أو سلوك الأشياء في الفضاء والفيزياء عند انعدام الجاذبيّة. وتترافق تلك المواد النظريّة مع تدريبات مُختلفة على آلية قيادة المركبات الفضائية أيًا كان اختصاص رائد الفضاء المُرشّح، ففي حالة غياب الطيّار عن الوعي مثلًا، يحتاج بقيّة أعضاء البعثة لأخذ زمام التحكّم فلا مجال للخطأ أبدًا لأن الأضرار بشريّة أولًا، وماديّة ثانيًا.

لانعدام الجاذبيّة مثلًا، يخضع روّاد الفضاء إلى تجارب مُختلفة فطائرة ”كيه سي-135“ (KC-135) عادة ما تكون الوجهة الأولى، الطائرة التي يختبر راكبيها انعدام الجاذبية لفترة 20 ثانية تقريبًا وخلالها تصعد الطائرة وتنخفض أكثر من مرّة، وهذا يرفع من المقاومة الجسديّة الخاصّة بالمُتدرّبين، ويسمح للوكالات باستبعاد من لا يُمكنهم التكيّف مع مثل تلك الظروف. جزء من تلك الاختبارات يُجريها أيضًا الطيّارون الحربييون، فطائراتهم تسير بسرعات عالية وتُغيّر اتجاهها مرارًا وتكرارًا خلال المناورات، وهذا يجعل الجسد يتعرّض لجاذبيّة الأرض ثمان أو تسع مرّات الحد الطبيعي، وهذا يُفسّر وجود هزّاع كأحد المُرشّحين، فهو طيّار حربي بالأصل.

مُحاكاة الفضاء

على مدار عامين أو أكثر، يعيش المُتدرّبون في بيئات تُحاكي بشكل أو بآخر الفضاء ومركباته المُختلفة، فانعدام الجاذبية مثلًا يجعل التحكّم بالمعدّات الكبيرة صعب نوعًا ما بسبب عدم وجود مُقاومة، ومن أجل ذلك أنشأت ”ناسا“ غرفة بأرضيّة نافثة للهواء يحتاج المُتدرّب فيها للتحكّم بدقّة بمجموعة من المعدّات الثقيلة التي تطفو بسبب الهواء، وهذا سيسمح لهم مُستقبلًا في إجراء عمليات الصيانة اللازمة لمحطّة الفضاء الدولية.

أما الطفو في الفضاء فمُحاكاته تجري عبر حوض سباحة كبير بطول وعرض 61 بـ 31 متر فيه أكثر من 22 مليون لتر من الماء(9). في قعر الحوض توجد مُجسّمات تُحاكي محطّة الفضاء الدولية، وهنا يقضي المُتدّرب سبع ساعات تقريبًا -بشكل دوري- داخل ذلك الحوض يتدرّب فيها على تنفيذ عمليات الصيانة لفترت طويلة في وقت يطفو فيه جسده بسبب الماء، ومع ارتداء البدلة الخاصّة بروّاد الفضاء، تُصبح العملية أكثر تعقيدًا، وهنا يُمكن للمُشرفين مُراقبة تطوّر أداء كل شخص لاختيار الأكثر جاهزية للمهمّات القادمة. الواقع الافتراضي (Virtual Reality) حاضر أيضًا في مُختبرات التدريب إذ يضع رائد الفضاء نظّارة على رأسه ليعيش المشهد كاملًا وكأنه داخل محطّة الفضاء الدولية(10).

مهارات أُخرى يحصل عليها الجميع كالإسعافات الأوليّة أو طريقة الطيران بالمركبة الفضائية من وإلى الفضاء، دون نسيان مهارات إجلاء المحطّة في حالات الطوارئ، وتلك مهارات استخدمها قاطنوا المحطّة الحاليين والسابقيين بسبب بقايا المركبات القديمة والأقمار الصناعية التي تطفو في الفضاء، والتي يُمكن أن تصطدم بالمحطّة وتؤدّي لأعطال مُختلفة فيها في أي وقت(11). والأهم مما سبق هي اختبارات البقاء والصمود في الظروف الصعبة، الاختبارات التي يوضع فيها المُتدّرب في ظروف بيئية صعبة يحتاج للنجاة فيها بأدوات بدائية بسيطة، وهذا في حالة فشل المركبة في الهبوط في المكان المُحدّد لها أثناء رحلة العودة، والتي قد ينتهي المطاف بها في أحد الصحاري أو البيئات الثلجية القادرة على القضاء على أي شخص غير مؤهّل خلال ساعات قليلة.

تلك الاختبارات، وغيرها الكثير، خضعت لها كل من الأمريكية ”جيسيكا مير“ (Jessica Meir) والروسي “أوليغ سكريبوشكا“ (Oleg Skripochka)، حالهم حال الإماراتي هزّاع المنصوري الذي اجتاز هو الآخر الاختبارات اللازمة للوصول لمحطّة الفضاء الدوليّة الأمر الذي يجعله رائد فضاء مؤهّل(12)، وإلا فإن ملايين الدولارات الإماراتية لن تكون كافية لإنقاذ أعضاء البعثة في حالة غياب هزّاع عن الوعي أثناء الانطلاق، أو تقيّئه المُستمر بسبب انعدام الجاذبية!

عند النظر إلى الصناعات التي غيّرت حياة البشرية كالطيران على سبيل المثال، يُمكن مُشاهدة المعايير العالية التي يجب على الجميع الالتزام بها، فمجال الخطأ يجب أن يكون شبه معدوم، والوسائط والخواطر لا مكان لها، ولعل ما حصل مع محمد رمضان مؤخّرًا خير مثال على ذلك، الفنّان الذي خرق قواعد السلامة العامّة الخاصّة بالطيران المدني بعد جلوسه في مقعد مُساعد الطيّار وقيادة الطيّارة لفترة من الزمن، الأمر الذي أدّى بطاقم قمرة القيادة إلى التحقيق فورًا(13)، وهو شيء نادرًا ما يحدث في بلداننا العربية، أي مُحاسبة المُخطأ. لذا، فإن وصول هزّاع للفضاء ليس وليد الصدفة أبدًا، فالأموال لوحدها لا تكفي لصناعة روّاد الفضاء، وإلا لشاهدنا جميع سُكّان الخليج العربي مثل هزّاع.

مراجع

  1. نادي في دوري الدرجة الثانية في ألمانيا يفسخ عقد لاعب تركي
    https://www.dw.com/en/germany-st-pauli-dismiss-turkish-defender-cenk-sahin-after-pro-military-post/a-50828963
  2. الإمارات تشتري مقعد وأحقيّة هزاع المنصوري
    https://emiratesleaks.com/الفضاء-2/
  3. تاريخ البعثات إلى محطّة الفضاء الدوليّة
    https://en.wikipedia.org/wiki/List_of_International_Space_Station_expeditions
  4. وكالة ناسا لم تُسمّي هزّاع المنصوري كرائد فضاء
    https://www.nasa.gov/image-feature/spaceflight-participant-hazzaa-ali-almansoori
  5. تقرير ”نيويورك تايمز“ حول شراء الإمارات لمقعد هزّاع المنصوري
    https://www.tellerreport.com/news/2019-10-06—new-york-times–nasa-did-not-name-an-astronaut—-uae-bought-a-seat-for-mansouri-in-soyuz-flight-.SJXiVa8vdS.html
  6. مسبار الأمل الإماراتي ومركز محمد بن راشد
    https://www.nytimes.com/2019/09/25/science/emirati-astronaut-uae-international-space-station.html
  7. إنفاق الحكومات على الفضاء خلال عام 2018
    http://www.euroconsult-ec.com/25_July_2019
  8. برنامج وكالة ”ناسا“ لتدريب روّاد الفضاء
    https://www.nasa.gov/audience/forstudents/5-8/features/F_Astronauts_in_Training.html
  9. كيف يُمكن أن تُصبح رائدًا للفضاء
    https://www.space.com/37110-becoming-a-nasa-astronaut-surprising-facts.html
  10. من تدريبات روّاد الفضاء قبل الصعود إلى الفضاء
    https://www.thoughtco.com/how-astronauts-train-for-space-4153500
  11. إجلاء محطّة الفضاء الدولية بسبب مُخلّفات الأقمار الصناعية
    https://www.forbes.com/sites/quora/2019/03/28/how-much-of-a-threat-is-space-debris-to-the-iss/
  12. أعضاء البعثة 61 لمحطّة الفضاء الدولية
    https://www.space.com/russia-soyuz-emirati-astronaut-expedition-61-launch-webcast.html
  13. محمد رمضان وخرق قواعد السلامة العامّة في الطيران المدني
    https://www.aljazeera.net/programs/aja-interactive/2019/10/14/جعلها-فوضى-محمد-رمضان-قاد-طائرة-وخاطر-بحياة-الأبرياء
الوسوم
اظهر المزيد

فراس اللو

مُبرمج ومُطوّر تطبيقات ومواقع. صانع مُحتوى ومُحرّر تقني في موقع ميدان الجزيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق